(1-5) تنزل كريم
في ليلة السابع عشر من رمضان و النبي صلى الله عليه وسلم في الأربعين من عمره أذن الله عز وجل للنور أن يتنزل ، فإذا جبريل عليه السلام آخذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له : اقرأ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم } فرجع بها رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يرجف فؤاده )) [ البخاري 3 ]
وهكذا نزلت أول آية من هذا الكتاب العظيم على النبي الرؤوف الرحيم في هذا الشهر العظيم .
وهكذا شهدت أيامه المباركة اتصال الأرض بالسماء ، و تنزل الوحي بالنور و الضياء ، فأشرقت الأرض بنور ربها وانقشعت ظلمات الجاهلية الجهلاء .
و من قبل ذلك شهد هذا الشهر الكريم نزولا آخر ، إنه نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، وكان ذلك في ليلة القدر … { إنا أنزلناه في ليلة القدر } { إنا أنزلنا في ليلة مباركة } ، قال ابن عباس : أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة [ النسائي و الحاكم ] ، وقال ابن جرير : نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه و سلم على ما أراد الله إنزاله إليه .
إنها تلك " الليلة الموعودة التي سجلها الوجود كله في فرح و غبطة و ابتهال ، ليلة الاتصال بين الأرض و الملأ الأعلى … ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته و في دلالته و في آثاره في حياة البشرية جميعا ، العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري ... والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف و تنير بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود نور الله المشرق في قرآنه { إنا أنزلناه في ليلة القدر } ، و نور الملائكة و الروح و هم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض و الملأ الأعلى { تنزل الملائكة و الروح فيها } و نور الفجــر الذي تعرضهالنصوص متناسقا مع نور الوحي و نور الملائكة … { سلام هي حتى مطلع الفجر } " [ الظلال 6/3944 ]
و أي نعمة أعظم من نعمة نزول القرآن ؟ نعمة لا يسعها حمد البشر فحمد الله نفسه على هذه النعمة { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا } .
وهكذا إذن ، شهد شهر رمضان هذا النزول الفريد لكتاب الله ، و من يومذاك ارتبط القرآن بشهر رمضان { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان }
ومن يوم ذاك أصبح شهر رمضان هو شهر القرآن .
(2-5) إكثار و اجتهاد
عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة [ البخاري 6 مسلم 2308 ].
قال الإمام ابن رجب : دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك ، و عرض القرآن على من هو أحفظ له … و فيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان ، وفي حديث فاطمة عليها السلام عن أبيها أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة و أنه عارضه في عام وفاته مرتـــين [ البخاري 3624 و مسلم 2450 ] [ لطائف المعارف 354،355 ].
قال رحمه الله : و في حديث ابن عباس أن المدارسة بينه و بين جبريل كانت ليلا يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلا فإن الليل تنقطع فيه الشواغل و يجتمع فيه الهم ، و يتواطأ فيه القلب و اللسان على التدبر كما قال تعـالى { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا } [ لطائف المعارف 355 ]
وقد كان للسلف رحمهم الله اجتهاد عجيب في قراءة القرآن في رمضان بل لم يكونوا يشتغلون فيه بغيره .
كان الزهري إذا دخل رمضان يقول : إنما هو قراءة القرآن و إطعام الطعام .
قال ابن الحكم : كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث و مجالسة أهل العلم .
قال عبد الرزاق : كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة و أقبل على قراءة القرآن .
وقال سفيان : كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف و جمع إليه أصحابه .[ انظر اللطائف359،360 ]
وكانت لهم مجاهدات من كثرة الختمات رواها الأئمة الثقات الأثبات رحمهم الله .
كان الأسود يختم القرآن في رمضان كل ليلتين ، وكان قتادة إذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة ، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة ، وقال ربيع بن سليمان : كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة ما منها شيء إلا في صلاة ، وروى ابن أبي داود بسند صحيح أن مجاهدا رحمه الله كان يختم القرآن في رمضان فيما بين المغرب و العشاء ، وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل ، وكان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب و العشاء في كل ليلة من رمضان ، قال مالك : و لقد أخبرني من كان يصلي إلى جنب عمر بن حسين في رمضان قال : كنت أسمعه يستفتح القرآن في كل ليلة . [ البيهقي في الشعب] قال النووي : وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان ، و تميم الداري ، و سعيد بن جبير رضي الله ختمة في كل ركعة في الكعبة [ التبيان 48 ][وانظر اللطائف 358-360 و صلاح الأمة 3/5-85 ]
قال القاسم عن أبيه الحافظ ابن عساكر : كان مواظبا على صلاة الجماعة و تلاوة القرآن ، يختم كل جمعة و يختم في رمضان كل يوم [ سير أعلام النبلاء20/562 ]
(3-5) تساؤلات
فإن قلت أي أفضل ؟ أن يكثر الإنسان التلاوة أم يقللها مع التدبر و التفكر ؟ قلت لك : اسمع ما قاله النووي .
قال النووي رحمه الله : و الاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الهم و تدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر و استخراج المعاني و كذا من كان له شغل بالعلم و غيره من مهمات الدين و مصالح المسلمين العامة يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يخل بما هو فيه ، و من لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل ، و لا يقرؤه هذرمة . [ نقله عه ابن حجر في الفتح 9/97 ]
و أما حديث ابن عمرو قال قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث * [أبو داود 1394و الترمذي 2949وقال حديث حسن صحيح ]فقد أجاب عنه الأئمة رضي الله عنهم .
قال ابن رجب : إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداوة على ذلك فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان ، خصوصا في الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناما للزمان و المكان ، و هو قول أحمد و إسحاق و غيرهما من الأئمة و عليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره [ لطائف المعارف 360 ]
وقال ابن حجر تعليقا على هذا الحديث :وثبت عن كثير من السلف أنهم قرؤوا القرآن في دون ذلك … وكأن النهي عن الزيادة ليس على التحريم ، كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب و عرف ذلك من قرائن الحال التي أرشد إليها السياق … وقال النووي : أكثر العلماء أنه لا تقدير في ذلك و إنما هو بحسب النشاط و القوة فعلى هذا يختلف باختلاف الأحوال و الأشخاص . و الله أعلم . [ الفتح 9/97 ]
و إن قال قائل بعض هذا الذي ذكر لا يقبله عقل و لا يقره منطق ، فإنني أقول له ما قاله الإمام اللكنوي رحمه الله . قال : فإن قلت بعض المجاهدات مما لا يعقل وقوعها قلت : وقوع مثل هذا و إن استبعد من العوام فلا يستبعد من أهل الله تعالى ، فإهم أعطوا من ربهم قوة وصلوا بها إلى هذه الصفات ، و لا ينكر هذا إلا من ينكر صدور الكرامات و خوارق العادات .
وإن الذاكرين لهذه المناقب ليسوا ممن لا يعتمد عليه أو ممن لا يكون حجة في النقل بل هم أئمة الإسلام و عمد الأنام … كأبي نعيم و ابن كثير و السمعاني و ابن حجر المكي و ابن حجر العسقلاني و السيوطي و النووي و الذهبي و من يحذو حذوهم [ إقامة الحجة على أن الإكثار من التعبد ليس ببدعة 101 ]
وقد سبق أن ذكرت كلمة الإمام ابن رجب التي قرر فيها أن مثل هذا الاجتهاد سائغ في الأزمنة المفضلة و الأماكن المفضلة و أما طوال العام فالأولى للمؤمن ألا يختمه في أقل من ثلاث و إن لم يكن ذلك ممنوعا ، قال الذهبي رحمه الله : و لو تلا و رتل في أسبوع و لا زم ذلك لكان عملا فاضلا ، فالدين يسر ، فوالله إن ترتيل سبع القرآن في تهجد قيام الليل مع المحافظة على النوافل الرابتة و الضحى و تحية المسجد مع الأذكار المأثورة الثابتة و القول عند النوم و اليقظة و دبر المكتوبة والسحر ، مع النظر في العلم النافع و الاشتغال به مخلصا لله مع الأمر بالمعروف و رشاد الجاهل و تفهيمه و زجر الفاسق ونحو ذلك … لشغل عظيم جسيم و لمقام أصحاب اليمين و أولياء الله المتقين ، فإن سائر ذلك مطلوب فمتى تشاغل العبد بختمة في كل يوم فقد خالف الحنيفية السمحة و لم ينهض بأكثر ما ذكرناه [ السير 3/84-86 ]
(4-5) صور أخرى
وفي رمضان يجتمع الصوم و القرآن ، وهذه صورة أخرى من صور ارتباط رمضان بالقرآن ، فتدرك المؤمن الصادق شفاعتان ، يشفع له القرآن لقيامه ، و يشفع له الصيام لصيامه ، قال صلى الله عليه وسلم : (( الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، و يقول القرآن : رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان )) [ أحمد ] و عند ابن ماجه عن ابن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول : أنا الذي أسهرت ليلك و أظمأت نهارك )) .
" واعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه جهاد بالنهار على الصيام و جهاد بالليل على القيام فمن جمع بين هذين الجهادين و وفيى بحقوقهما و صبر عليهما وقي أجره بغير حساب " [ لطائف المعارف 360 ]
و من صور اختصاص شهر رمضان بالقرآن الكريم صلاة التراويح ، فهذه الصلاة أكثر ما فيها قراءة القرآن ، وكأنها شرعت ليسمع الناس كتاب الله مجودا مرتلا ، و لذلك استحب للإمام أن يختم فيها ختمة كاملة .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره [ لطائف المعارف 356 ] ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة قال أتيت النبي صلى اللهم عليه وسلم في ليلة من رمضان فقام يصلي فلما كبر قال الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ثم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران لا يمر بآية تخويف إلا وقف عندها ثم ركع يقول سبحان ربي العظيم مثل ما كان قائما ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد مثل ما كان قائما ثم سجد يقول سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما ثم رفع رأسه فقال رب اغفر لي مثل ما كان قائما ثم سجد يقول سبحان ربي الأعلى مثل ما كان قائما ثم رفع رأسه فقام فما صلى إلا ركعتين حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة [ أحمد ، باقي مسند الأنصار ، رقم 22309]
وكان عمر قد أمر أبي بن كعب و تميما الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام و ما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر ، و في رواية أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها [ لطائف المعارف 356 ] وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال و بعضهم في كل سبع منهم قتادة و بعضهم في كل عشرة منهم أبو رجاء العطاردي [ لطائف المعارف 358 ]
كل هذا التطويل و القيام من أجل تلاوة القرآن و تعطير ليالي شهر القرآن بآيات القرآن .
(5-5) مسارات ثلاثة
وإذا كان هذا شأن القرآن في رمضان فما أجدر العبد المؤمن أن يقبل عليه ، و يديم النظر فيه ، و إني أقترح على الأخ المؤمن الصادق أن يجعل له مع القرآن في هذا الشهر ثلاثة مسارات :
المسار الأول : مسار الإكثار من التلاوة و تكرار الختمات ، فيجعل الإنسان لنفسه جدولا ينضبط به ، بحيث يتمكن من ختم القرآن مرات عديدة ينال خيراتها و ينعم ببركاتها .
المسار الثاني : مسار التأمل و التدبر ، فيستفتح الإنسان في هذا الشهر الكريم ختمة طويلة المدى يأخذ منها في اليوم صفحة أو نحوها مع مراجعة تفسيرها وتأمل معانيها ، و التبصر في دلالاتها و استخراج أوامرها و نواهيها ثم العزم على تطبيق ذلك و محاسبة النفس عليه ، و لا مانع أن تطول مدة هذه الختمة إلى سنة أو نحوها شريطة أن ينتظم القارئ فيها و يكثر التأمل و يأخذ نفسه بالعمل ، و لعل في هذا بعض من معنى قول الصحابي الجليل : كنا نتعلم العشر آيات فلا نجاوزهن حتى نعلم ما فيهن من العلم و العمل .
المسار الثالث : مسار الحفظ و المراجعة ، فيجعل لنفسه مقدارا يوميا من الحفظ و مثله من المراجعة ، و إن كان قد حفظ و نسي فهي فرصة عظمى لتثبيت الحفظ و استرجاع ما ذهب ، و لست بحاجة إلى التذكير بجلالة منزلة الحافظ لكتاب الله و رفيع مكانته ، و حسبه أنه قد استدرج النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى له .
أخي الكريم … هاقد عرفت من فضل القرآن ما قد عرفت ، و علمت من ارتباط هذا الشهر الكريم بالقرآن العظيم ما قد علمت ، فلم يبق إلا أن تشمر عن ساعد الجد ، و تأخذ نفسك بالعزم ، و تدرع الصبر ، و تكون مع القرآن كما قال القائل :
أسرى مع القرآن في أفق فذ تبارك ذلك الأفق
وسرى به في رحلة عجب من واحة الإيمان تنطلق
وارتاد منه عوالما ملئت سحرا به الأرواح تنعتق
يامن يريد العيش في دعة نبع السعادة منه ينبثق
" عباد الله هذا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، و في بقيته للعابدين مستمتع ، و هذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم و يسمع ، و هو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع ، و مع هذا فلا قلب يخشع و لاعين تدمع ولا صيام يصان عن الحرام فينفع ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع .[ لطائف المعارف 364ا/365 ]
فهل للنفس إقبال ؟ و هل للقلب اشتياق ؟ و هل نملأ شهر القرآن بتلاوة القرآن ؟