كان الخليفة ابو جعفر المنصور حريصا على أموال الدولة، فحين يأتيه الشعراء بالمدائح وينتظرون منه الأعطيات كان يوهمهم بأن القصيدة قد ذكرت من قبل والدليل أن ثلاثة يحفظونها..
لقد كان يحفظ القصيدة من أول مرة يقولها الشاعر ولديه غلام يحفظها من المرة الثانية ولديه جارية تحفظها من المرة الثالثة، فيأتى الشاعر الفحل لإلقاء القصيدة بين يديه، فيسأله أبو جعفر: أتعرف الشروط؟
فيقول الشاعر: نعم، إن كانت القصيدة من منقول لم تجزني عليها شيئا، أما إن كانت جديدة فلي وزن الذى كتبتها عليه ذهبا.
فيقول ابو جعفر للشاعر هات ما عندك.
ويبدا الشاعر فى القصيدة وبعد انتهاء الشاعر من إلقائها يقول له أبو جعفر: هى من منقول، فيبهت الشاعر عندما يسمع القصيدة من إبى جعفر، ويزداد العجب من الشاعر عندما يأتى الغلام ويسرد القصيدة، ويبهت كثيرا عندما يسمعها من الجارية، فهى حينئذ تكون قد حفظت القصيدة لأنها كما قلنا من قبل تحفظ القصيدة إذا ذكرت امامها ثلاث مرات فالمرة الأولى من الشاعر والثانية من أبى جعفر والثالثة من الغلام فيخرج الشاعر يجرجر أذيال الخيبة.
سمع بذلك الأمر الشاعر المعروف الأصمعي، فقال له الشعراء نكتب القصيدة من بنيات افكارنا ونظل طول الليل ننظم فيها ونكتشف أن ثلاثة يحفظونها كيف هذا؟
قال الأصمعي: إذا فى الأمر مكر وحيلة، دعوا الأمر لي!
فلبس الجلد وجعل شعره جدائل وجر خلفه ناقته وذهب إلى أبي جعفر المنصور.. وقال: السلام عليكم باأمير المؤمنين.
فاستأذن الأصمعي لإلقاء قصيدته ولم يعرفه الخليفة بل ظنه أعرابيا، وأخبره بالشروط..
قال الأصمعي:
صــــوت صـفـيــر الـبـلـبــلهـــيــــج قــلــبـــي الــثــمـــل
الـــمـــاء والـــزهــــر مـــعــــامـــع لـحــظ زهـــر الـمـقــل
وأنـــــت يـــــا ســيـــد لــــــيوســيـــدي ومــولـــى لـــــي
فــــكــــم فــــكــــم تــيــمــنـــيغــــــزيـــــــل عــقـــيـــقـــلـــي
قـطــفــتــه مـــــــن وجـــنــــةمــــن لــثــم ورد الـخــجــل
فــــــــقـــــــــال لا لا لا لا لاوقـــــــد غـــــــدا مـــهــــرول
والــخـــوذ مــالـــت طـــربـــامـــن فـعــل هــــذا الــرجــل
فـــولــــولــــت وولـــــولــــــتولــي ولــي يــا ويــل لـــي
فـــقــــلــــت لا تــــولــــولــــيوبــيــنــي الــلــؤلـــؤ لـــــــي
قــالــت لــــه حــيـــن كـــــذاانــهـــض وجـــــد بـالـنـقــل
وفــــتــــيــــة ســـقـــونـــنــــيقـــهـــوة كـالـعــســل لـــــــي
شــمــمـــتـــهـــا بــــأنــــفـــــيازكــــــى مــــــن الـقــرنــفــل
فــي وســط بسـتـان خـلـيبـالـزهــر والــســرور لـــــي
والــعــود دنــــدن دن لــــيوالطبـل طبطـب طـب لــي
طبـطـب طـبـطـب طـبـطـبطبطـب طبطـب طـب لــي
والسقف سقسق سق ليوالـرقـص قــد طــاب إلــي
شـــوى شـــوى وشـاهــشعـــلــــى ورق ســفـــرجـــل
وغــــرد الـقـمــري يـصـيــحمـــــلـــــل فــــــــــي مـــــلــــــل
ولــــــــو تــــرانــــي راكــــبــــاعـــلـــى حـــمـــار أهـــــــزل
يــمــشــي عـــلـــى ثـــلاثـــةكــمــشـــيـــة الــعــرنــجــلــي
والــنــاس تــرجــم جـمـلــيفــي الـسـوق بالقـلـل لــي
والــكـــل كــعــكــع كــعــكــعخـلـفــي ومــــن حـويـلـلــي
لـــكـــن مــشــيــت هـــاربــــامـــــن خـشــيــة الـعـقـنـقــل
إلـــــــــى لــــقـــــاء مـــــلـــــكمـــــعـــــظـــــم مـــــبـــــجــــــل
يــــأمــــر لــــــــي بــخــلــعــةحــمــراء كــالـــدم دم لـــــي
أجـــــــر فــيــهـــا مــاشـــيـــامـــــبـــــغـــــددا لـــــلـــــذيـــــل
أنـــــا الأديـــــب الألـمــعــيمـن حـي أرض المـوصـل
نـظـمــت قـطـعــا زخــرفـــتيـعـجــز عـنـهــا الأدبــلـــي
أقــــــول فــــــي مـطـلـعــهــاصــــوت صـفـيــر الـبـلـبــل
حينها اسقط في يد الخليفة فقال يا غلام يا جارية. قالوا لم نسمع بها من قبل يا مولاي. فقال احضر ما كتبتها عليه فنزنه ونعطيك وزنه ذهباً. قال ورثت عمود رخام من أبي وقد كتبتها عليه، لا يحمله إلا عشرة من الجند. فأحضروه فوزن الصندوق كله.
فقال الوزير: يا أمير المؤمنين ما أضنه إلا الأصمعي، فقال الخليفة: أمط لثامك يا أعرابي. فأزال الأعرابي لثامه فإذا به الأصمعي. قال الخليفة أتفعل ذلك بأمير المؤمنين يا أصمعي؟ قال: يا أمير المؤمنين قد قطعت رزق الشعراء بفعلك هذا. قال الخليفة: أعد المال يا أصمعي، قال: لا أعيده. قال: أعده، قال الأصمعي: بشرط. قال الخليفة فما هو؟ قال: أن تعطي الشعراء على نقلهم ومقولهم. قال الخليفة: لك ما تريد.